أروع قصائد الفُصحى .. قصائد فى ذاكرتى ( 3 )
قصيدة الحب فى هذا الزمان للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور
أولاً نص القصيدة
تَسْأَلُنِى رَفِيْقَتِى : مَا آخِرِ الطَّرِيْقْ
وَهَلْ عَرَفْتُ أَوَّلَهْ
نَحْنُ دُمًى شَاخصَهْ
فَوْقَ سِتَارٍ مُسْدَلَهْ
خُطًى تَشَابَكَتْ بِلاَ ..
قَصْدٍ عَلِى دَرْبٍ قَصِيْرٍ ضَيَقِ
اللهُ وَحْدَهُ الذِى يَعْلَمُ مَا غَايَةُ هَذَا الْوَلَهِ المُؤرِّقِ
يَعْلَمُ هَلْ تُدْرِكُنَا السَّعَادَهْ
أَمْ الشَّقَاءُ وَالنَّدَمْ ؟
وَكَيْفَ تُضَعُ النَّهَايَةُ المُعَادَهْ
المَوْتُ ... أَوْ نَوَازِعُ السَّأَمْ ؟
يُسَلِّمُونَ فِى فُتُورْ ...
يُدِّعُونَ فِى فُتُورْ ...
*
الحُبْ يَا رَفِيْقَتِى ، قَدْ كَانْ
فِى أَوَّلِ الزَّمَانْ
يَخْضَعُ للتَرْتِيْبِ وَالحُسْبَانْ
" نَظْرَةٌ ، فَابْتِسَامَةٌ ، فَسَلاَمٌ
فَكَلاَمٌ ، فَمَوْعِدٌ ، فَلِقَاءُ "
اليَوْمَ .. يَا عَجَائبَ الزَّمَانْ !
قَدْ يَلْتَقِى فِى الحُبِّ عَاشِقَانْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْتَسِمَا
ذَكَرْتِ أَنَّنَا كَعَاشِقَيْنْ عَصْرِيَّيْنِ ، يَارَفِيْقَتِى
ذُقْنَا الذِى ذُقْنَاهْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَشْتَهِيْهْ
وَرَغْمِ عِلْمِنَا
بِأَنَّ مَانَنْسِجَهُ مُلاءَةً لِفَرْشِنَا
تَنْقُضُهُ أَنَامِلُ الصَّبَاحْ
وَأَنَّ مَا نَهْمِسُهُ ، نُنْعِشُ أَعْصَابَنَا
يَقْتُلُهُ البُواحْ
فَقَدْ نَسْجْنَاهُ
وَقَدْ هَمَسْنَاهُ
*
الحُبُ فِى هَذَا الزَّمَانِ يَا رَفِيْقَتِى ...
كَالحُزْنِ ، لاَيَعِيْشُ إِلاَّ لَحْظَةَ البُكَاءْ
أَوْ لَحْظَةَ الشَّبَقْ
الحُبُ بَالْفطَانَةِ اخْتَنَقْ
إِذَا افْتَرَقْنَا ، يَا رَفِيْقِتِى ، فَلْنَلْقِ كُلَّ اللوْمْ
عَلَى زَمَانِنَا
وَلْنَنْفُض الأَيْدِى فِى التَّذْكَارِ وَالنَّدَمْ
وَلْنَمْسَحِ الظِّلاَلَ عَنْ عُيُونِنَا
وَلْنَبْتَسِمْ فِى ثِقَةٍ ، بِأَنَّ مَا حَدَثْ
كَانَ إِرَادَةَ القَدَرْ
وَأَنَّ آمِرًا أَمَرْ
وَأَنَّنَا قَدْ اسْتَجَبْنَا للذِى نُحِسُّهُ
حِيْنَ قَتَلْنَا حِسَّنَا
وَأَنَّ مَا مَضَى
أَهْوَنُ مِنْ أَنْ نَحْمُلُهُ كَأَمْسِنَا
مِنْ أَنْ يَمدَّ ظِلَّهُ البَغِيْضْ
عَلَى شَبَابِنَا
وَلْنَنْطَلِقْ مُغَامِرِيْنَ ضَائِعِيْنَ فِى البِحَارِ العَكِرَهْ
نَمدُّ جِسْمَنَا الجَدِيْبَ ، وَالضُّلُوعَ المُقْفَرَهْ
فِى الغُرَفِ الجَدِيْدَةِ المُؤَجَّرَهْ
بَيْنَ صُدُورٍ أُخَرٍ مُعْتَصِرَهْ
***
صلاح عبد الصبور
=================
ثانيا دراسة تحليلية للقصيدة بعنوان
موقف صلاح عبد الصبور من موضوع الحب في الشعر العربي الحديث
بقلم / آمنة عمايرية على موقع ديوان العرب
صلاح عبد الصبور هو شاعر اصطبغ موقفه من هذا الموضوع بصبغة حزينة وجاء ممتزجا بتجربته في الحزن، ذلك»لانعكاس كآبة الواقع على مشاعر الحب واصطباغ هذه التجربة بسوداوية الحياة« [1] أو الواقع الذي»يحاول وأد تجربة الحب « [2]، حيث يقول صلاح عبد الصبور:
وداعا يا نجمي الأوحد
ولأن الأيام مريضة
ولأن الليل الموحش يولد فيه الرعب
لن نجني... حتى الحب
ومن هذا المنطلق يصور صلاح عبد الصبور مدى مأساوية العالم و الواقع فهو»واقع معتم يحول دون إتمام تجربة حب حقيقة، ويحول دون صفاء المحبين« ، وتنعكس مأساوية العالم والواقع على المحبين عندما يصور صلاح عبد الصبور»المحبين أو العشاق تصويرا مأساويا، فالعشاق في القصيدة المعاصرة نماذج إنسانية معذبة مجهدة، يائسة ولقاءات العشاق – في هذه القصيدة- لقاءات تساند بين كائنين إنسانيين هدمهما الواقع واستلب ما بهم من قدرة على الإشراق والاستمرار، والحلم« [5]، حيث يقول في قصيدته» يا نجمي... يا نجمي الأوحد«:
وسنجلس في الركن النائي.. قطين ألفين
مقرورين
نتحسس ما أبقت أيام الذل على وجهي المكدود
وعلى خديك من الألم الممدود
كما أن سوداوية الواقع لم تأثر وحدها على موضوع الحب عند صلاح عبد الصبور بل أيضا هشاشته وزيفه أدى إلى انحراف»الحب عن هدفه الأسمى، والتدني به من خلال ربطه بمظاهر الابتذال والإسفاف« [7]، مما جعل صلاح عبد الصبور يعلن سأمه من زمن القرن العشرين حيث يقول:
هذا زمان السأم
نفخ الأراجيل سأم
ذبيب فخد امرأة بين أليتي رجل سأم
ونرى سآمته وكآبته تزداد كلما استحضر المرأة واستنجد بها حينما يقول:
صديقتي عمي صباحا، إن أتاك في الصباح
هذا الخطاب من صديقك المحطم المريض
وادعي له إلهك الوديع أن يشفيه
وسامحيه، كيف يرجو أن ينمق الكلام
وكل ما يعيش فيه أجرد كئيب؟
فقلبه كسير
وجسمه مغلل إلى فراشه الصغير
وبالجراح والآلام قلبه كسير
ويعلن الشاعر أن الحب »لم يعد كما كان، الحب في هذا الزمان خاضع للتحول، فإذا أحب الفارس اليوم فمن يدري- في الغد – هل يكون في العيون وجدها أو يكون فيها حقدها، وفي القديم كان الحب »يخضع للترتيب والحسبان «كانوا يقولون، نظرة فابتسامة فسلام...إلخ، أما اليوم فإن العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته» من قبل أن يبتسما«، وقد يذوق العاشقان ما يذوقانه قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق، تضيع قبل أن تتحدد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر، وهذا ما حدث للشاعر ذات يوم في فينا«، حيث يقول:
الحب يارفيقتي، قد كان
في أول الزمان
يخضع للترتيب والحسبان
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
اليوم يا عجائب الزمان
قد يلتقي في الحب عاشقان
من قبل أن يبتسما
ذكرت أننا كعاشقين عصريين يا رفيقتي
ذقنا الذي ذقناه
من قبل أن نشتهيه
الحب في هذا الزمان يا رفيقتي
كالحزن لا يعيش إلا لحظة البكاء
ويبدو هنا أن الشاعر كلما حفر في – تيمة الحب- كلما طالعته أنباء الخيبة والانكسار، إذ لم يعد حب المرأة بالطقوس نفسها التي درج عليها المحبون القدامى، وإنما صار هذا الحب العصري حوار أجساد بدلا من حوار الأرواح، وبذلك اختفت نكهة الإيماء وسادت الرتابة والإسفاف، فقد أصبح الحب»شيئا مبتذلا ، ينمو في ظروف غير طبيعية، فلم يعد في ذلك الغموض الجذاب المثير الذي كان يلهب عاطفة وخيال الشاعر الرومانسي ولذلك فهو لا يولد غير الأسى والسأم« [13]، وتقول الدكتورة كاميليا عبد الفتاح: »يقارن صلاح عبد الصبور بين الحب في هذا الزمان وما قبله مقارنة تؤكد تأثر معاني الحب في التجربة المعاصرة بإيقاع الحياة ولونها النفسي، وبأنه – أي الحب – تجربة محكوم عليها بالإخفاق لإخفاق الواقع المحيط بها ذاته.« [14]
كما أن الواقع وزيفه حال دون تحقيق رغبة شاعرنا في إيجاد حب حقيقي صاف، ويؤكد هذا الدكتور صبري حافظ حيث يقول أن: »زيف الواقع وتبعثر الأحلام فيه وتناثرها مزقا وأشلاء، ووقوع فرسانه أسرى قضبان الصمت، وسيطرة المواضعات الجائرة على ظروفه الحضارية، وإحساس الشاعر بالاغتراب عن تنعمات المدينة وعن الدور الحقيقي للشعر والكلمات، وتمزقه إزاء هذا الوضع الراعب المذل كل هذا خلق في أعماق فارسنا توقا عميقا، صادقا وصوفيا إلى واحة ضئيلة من العواطف البريئة الصافية. «
وتتعمق مأساة الحب لدى صلاح عندما يتحول الإنسان إلى مجرد دمى شاخصة ، جامدة لا تملك الإحساس بالحب:
تسألني رفيقتي ما آخر الطريق
وهل عرفت أوله
نحن دمى شاخصة
فوق ستار مسدلة
خطى تشابكت بلا
قصد، على درب قصير ضيق
الله وحده يعلم ما غاية هذا الوله المؤرق
يعلم هل تدركنا السعادة
أم الشقاء والندم
ويكون الواقع المر أو»الأيام الجهمة«سببا في موت الحب بالنسبة لصلاح عبد الصبور، وما موت الحب عنده »إلا لأن الشاعر فقد القدرة عليه، فحزنه المقيم إن يكن قد هبط إلى الأعماق حين رانت عليه أنفاس الحب البكر، لقد عاد هذا الحزن ينقر في قلبه بعد أن استنفذت تجربة الحب أثرها، بل ربما عاد الحزن في هذه المرة مضاعفا بعد أن أضيف إليه الحزن على موت الحب وفقدان القدرة عليه« ، حيث يقول صلاح في قصيدته»رسالة إلى سيدة طيبة«:
أشقى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة
جعلته يا سيدتي قلبا جهما
سلبته موهبة الحب
وأنا لا أعرف كيف أحبك
وبأضلاعي هذا القلب
وهكذا فإن المرأة عند صلاح عبد الصبور لم تعد موضوع غزل قديم وإنما استحالت إلى نظير يعيد توازن الأشياء ويبحث عن أشياء وراء حدود الأنوثة ولحظة الاشتهاء إلى البراءة والإخلاص والإنسانية والوفاء، وبذلك يبتعد الحديث عن المرأة عن ثقافة الغزل الرومانسي، كما أن الحب عند صلاح عبد الصبور أضحى وسيلة للمعرفة وتحقيقا للإنسانية والإنسان، وما»قيمة الحب الإنساني إلا واحدة من قيم كثيرة، افتقدها الشاعر الحداثي وعانى من ضياعها، في دروب الحياة الجهمة...مما يكون به الإنسان إنسانا، وعندها يتحول هذا الجذب الروحي إلى معاناة في التجربة الشعرية« [19]،كما هو الحال عند الشاعر صلاح عبد الصبور الذي كان الحب عنده سببا في معاناته وحزنه ومن ثم فإن ثيمة الحزن و ثيمة الحب سارتا جنبا إلى جنب في شعره لتعبر عن موقف الشاعر من موضوع الحب.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article34012
شكرا لتلك الرحله القصيرة الطويله فى عالم صلاح عبد الصبور
ردحذفكل الشكر والتقدير لك
حذف